وعلى إثر تعطّل لغة الحوار بين رئيس الحكومة ورئيس البرلمان من جهة ورئيس الجمهورية من جهة ثانية، مما خلق مناخا من التنافر والتنافي والصدام.
وعلى إثر عمليات تجييش وحشد للشارع من طرف رئيس الجمهورية بعد قيامه بتنقلات يومية بين الأحياء الشعبية ووسط العاصمة وبين المساجد للتحريض على الحكومة والبرلمان وعلى الهيئات المنتخبة كما أن إشاعة خطاب الترذيل والشيطنة وحقن الشارع ضد الحكم ومراكمة ذلك بإطلاق تصريحات متتالية تزعم تعرض الرئيس لمحاولة اغتيال وذلك قصد تصعيد منسوب الحقد والكره والبغض تجاه كافة أطراف تحالف الحكم تمهيدا لإطلاق حركة جماهيرية تطيح بالبرلمان ورئيسه والحكومة ورئيسها.
واستجابت بعض الحساسيات والفعاليات لمثل هذه التلميحات والدعوات وأطلقوا على إثرها موعدا لمسيرة انطلقت من أحد أحياء العاصمة بتاريخ 6 فبراير الماضي، واتجهت نحو مقر مجلس نواب الشعب قصد الاعتصام أمامه والدعوة لحلّه وإسقاط الحكومة على إثره ولكن باءت هذه المسيرة بالفشل لقلة عدد مرتاديها وغلق منافذ الوصول إلى مقر البرلمان عنها.
وعلى إثر تزايد حركات الاحتجاج الليلية التي شابتها عمليات حرق ونهب وسرقة للممتلكات العامة والخاصة وما نتج عنها من اعتقالات ومحاكمات لأكثر من 1000 شاب وقاصر.
وعلى إثر تجديد عريضة برلمانية لسحب الثقة من رئيس البرلمان للمرة الثانية.
على إثر كل هذه المعطيات والحيثيات والوقائع فقد قرّرت حركة النهضة بعد حوار داخلي اتسم باحتدام الاختلاف فيه التحضير لمسيرة جماهيرية عارمة يحشد وجيشت لها طيلة ثلاث أسابيع في الجهات والمحليات والأحياء وفي العاصمة وأحوازها من أجل الاستنفار واستعراض القوة قصد تثبيت نظام الحكم وتأكيد شرعية الحكومة والبرلمان والمؤسسات المنتخبة كما تثبيت مكتسبات الثورة ومبادئ الديمقراطية وأساسيات الانتقال الديمقراطي حسب ما جاء على لسان قياداتها.
واعتبارا من معطى اهتزاز ثقة القواعد بالقيادات طيلة عشرية كاملة من الحكم وبروز الخلافات الداخلية الحادة بينهم، نتج عنها انشقاقات واستقالات وتجاذبات ومناكفات بين هذه القيادات.
وفي المقابل حصلت خيبة أمل لدى القواعد إزاء عجز الحركة عن تحقيق الحدّ الأدنى الضروري المطلوب وذلك زمن تواجدهم بالحكم ومدى انعكاس ذلك عليهم إيجابا كضحايا لحكم استبدادي وكذا انعكاسه على مجتمع كانوا يأملون أن يحققوا له نجاحات وفوائد وإنجازات تروّج إيجابا لأحقيّة حكم الإسلاميين وتثبّتُ مشروعية بدائلهم وصوابية برامجهم الانتخابية التي وعدوا بها شعبهم.
واعتبارا من شعور هذه القواعد بالخطر الذي يهدد مستقبلهم باستعادة ماض أليم يعيد دورة محاسبتهم ومحاكمتهم وهم الذين عانوا من تداعيات المحنة طيلة عقدين كاملين، ولكن هذه المرة باعتبارهم سببا في الفساد والانتهازية والتمعّش من السلطة.
وقد عمّق من هذا الشعور احتدام القصف السياسي والإعلامي المكثف تجاههم وتجاه قياداتهم على حدّ سواء فضلا عن التلميح الدولي (وزير خارجية فرنسا ودولة الإمارات والسعودية ومصر) بتجريمهم وتجريم حركتهم واتهامها بالأخونة والإرهاب ووسمهم بذلك ، قصد إقصائهم من الحكم والبدء في محاكمتهم.
إن الانقسام الحاصل في جسم الحركة وعدم إيفاء القيادات بوعود الإصلاح الداخلي تنظيميّا وهيكليّا واستراتيجيا إلى حدّ إصدار قرار فوقي بتأجيل عقد مؤتمر الحركة عدد 11 وبروز نتوءات فُرقة وانفجار وانشقاق أفقي وعمودي في كامل الجسم التنظيمي والحركي عجزت القيادات عن تطويقه واختزاله فقد تداعت القواعد في آخر محاولة لها لإعادة لملمة الجسم واستعادة عافيته وذلك من خلال تلبية النداء لاستعراض القوّة العددية لعلها بذلك تدعم ما تبقى من عناصر القوة والوحدة والتضامن داخل قبّة القيادة التي تقاعست وعجزت عن ربء صدعها ولملمة صفها وتوحيد موقفها ووقف انشطارها.
وزاد من إصرار القواعد على المشاركة في لملمة الجراح ذلك المفهوم العقدي والفكري المنغرس في نفوس القواعد وهو مفهوم العصبية الايديولوجية وضرورة استعادتها واستحضارها عند مواجهة الخصوم والأعداء وزاد من هذه الحماسة والعصبية صدور استطلاعات وسبر آراء تُظهرُ تفوّق حزب المنظومة القديمة! ونسب الثقة التي حظيَ بها وكذلك ظهور خطاب قصوري راديكالي صادر عن رموز النظام السابق وعن رئيس الجمهورية الذي لوّح بمحاسبة الجميع قيادة وقواعد وصل حدّ وصفهم بالمنافقين، الأمر الذي استفزّهم للتمترس والدفاع عن أنفسهم وكيانهم وجسم حركتهم المتداعي وكذا الاستنفار الكامل لإثبات الوجود ومقارعة الذين يهدفون إلى إقصائهم ومحاكمتهم ومحاسبتهم كما النفير العام لإعادة التموقع وإثبات القوّة والحضور خاصة بعد تواتر النكسات التي أصيبوا بها جماهيريّا على إثر انتخابات 2014 و2019 التي خسروا فيها أكثر من مليون ناخب حيث لم يعودوا يمثلون إلاّ 6.5% من مجموع الناخبين المسجلين و15% من مجموع المقترعين.
هذه كانت مجمل الأسباب الذاتية والموضوعية التي دفعت لتحشيد مسيرة يوم 27 فبراير 2021 والتي وُصفت بالضخمة والحاشدة رغم أن هذه الحركة كانت في سنوات2011 و2012 تحشد مثل هذا العدد وأكثر منه في ولاية واحدة (صفاقس مثلا).
فما هي الدلالات الكامنة وراء هذه المسيرة؟ وكيف نقيّم مثل هذا الحراك والتحشيد إستراتيجيا وواقعيا وتكتيكيا؟
وما هي التداعيات الممكنة اجتماعيا وسياسيا وواقعيا وعلى مستقبل البلاد وذلك بعد إقحام الشارع في فض الاشتباك وتثبيت المغالبة وكهربة خطوط التواصل والحوار؟
1-مسيرة مجيّرة لخدمة إيفو الشخص الواحد:
إن الخلاف بين القيادات حول بقاء راشد الغنوشي على رأس البرلمان ورئيسا للحركة في آن واحد، دفعه لحسم الخلاف لصالحه وذلك بسحب البساط بمناوئيه الخارجيين ومعارضيه الداخليين ومن خلال إقناع الجميع أنه الوحيد القادر على التحكم بالمشهد السياسي سواء من خلال البرلمان أو من خلال تنظيم الحركة، أو من خلال خيوط العرض والطول الخفية المتحكمة بدواليب الحكومة أو من خلال علاقاته الدولية الممتدة ورضاء اللوبيات الدولية المتداخلة التي سُمح لها بالتصرّف والتأثير بالحكم، كما احتكاره لمفتاح الخزانة المالية للحركة.
وما فتئ الغنوشي يعمل على إقناع الجميع على قدرته على التحشيد والتجييش والتجميع وعلى حسن اقتداره في إدارة معركة مناكفة رئيس الجمهورية ومطارحته ومناورته ومداورته وإضعاف فعله وإشعاعه، وروّج بأنه هو الوحيد القادر على التسويق لخطاب الحكمة والتجميع والوئام المجتمعي ولذلك لجأ إلى توظيف عامل المال من أجل تجيير كل هذا الحراك لخدمة شخصه والأنا الأعلى الكامنة فيه فأغدق الأموال وأسداها لمن يكنّ له الولاء والوفاء والجزاء، ولم يبخل على أحد من مريديه من عظيم عطائه وهو يردد "ألا ترون أني أوفي الكيل وأنا خير المنزلين.. وإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ولا تقربون" ولذلك تداعى إليه تنظيم الحركة كله ليردّدوا وراءه "يا أبانا مُنع منا الكيل فأرسل معنا أخانا نكتل وإنا له لحافظون" ولذلك احتشد الجميع وتنادوا مع أهاليهم وإخوتهم وأخواتهم وأطفالهم وأزواجهم وبنيهم وأقاربهم وأصدقائهم ومن يخضع لسلطتهم ليزدادوا الكيل وموفور العطاء ومزيد الأجر وعظيم الهدايا والأثمان كلّ حسب ما بذله من جهد لإحضار جمهور أوفر وعدد أكبر من الناس، ولسان حاله يقول "يا أيها العزيز مسّنا وأهلنا الضر وجئنا ببضاعة مزجاة فأوفِ لنا الكيل وتصدّق علينا إن الله يجزي المتصدقين".
ولم يكتف الغنوشي بذلك بل خطب فيهم وحده وأطال ولم يُقصر وأطنب ولم يختصر وتكلم وحده دون تشريك غيره محتكرا فصل الخطاب متأثرا بعقدة الـ"جهوقا" التي يتصور فيها الإنسان نفسه أنه أعظم من كل البشر المحيطين به ويتصور أنه المكلف من الله ليكون الساعد الأيمن والناطق باسمه معتقدا أن كل تصرفاته ناتجة عن الإرادة الإلهية وهو ما جعله يبرر سلوك تقبيل اليد ويبرر عرضها ومدها للمواطنين في إهانة لكرامة الإنسان وإحياء لعادة سيئة ومنبوذة شعبيا وتونسيا ورسميا.
أطنب الغنوشي بما لم يُعهد عليه من قبل في الاستدلال على تصرفاته ومدلولات كلامه بعديد الآيات القرآنية وكأنه في خطبة مسجديّة أو موعظة دينية تعبويّة. كما تلبّس الغنوشي في خطابه عقدة "كرونوس" وهي عقدة الأب الذي يظلم أولاده ويسحق شخصيتهم, ويُطلق على هذه المعضلة النفسية بحالة "الأب المفترس" والغريب في الأمر أنه وحين رُفع شعار "بالروح بالدم نفديك يا غنوشي" من طرف من يمسك بمكبّر الصوت لم يتفاعل معه عموم الجماهير الحاضرة ولم يردّدوا معه هذا الشعار مما اضطرّه إلى تكراره وحده أكثر من مرة من دون التفاعل معه وحين رُفع شعار داعم لحكومة المشيشي ردد الجميع الشعار مما دفع الغنوشي للتعليق ضاحكا "يبقى المشيشي وأنا أغادر إذا!!".
2- مسيرة حزبيّة ضيّقة وغير جامعة:
رغم التحشيد لهذه المسيرة من كل المحلّيات والجهات والأحياء وكافة بقاع الجمهورية ورصد إمكانيات مهولة لنقل الأفراد عبر حافلات ووسائل نقل عمومية وخاصة إلاّ أنها تميّزت بحضور فعاليّة واحدة وهي الفعاليّة النهضوية ولم تشهد إطلاقا حضورا لأي طرف من المجتمع المدني أو المهني أو السياسي الذي قد يُضفي عليها سمة الوطنية أو الشعبية، فلا اتحاد الشغل كان حاضرا ولا اتحاد الفلاحين ولا اتحاد الصناعة والتجارة ولا رموز المجتمع المدني ولا الجمعيات والمنظمات الوطنيّة ولا أي طرف سياسي أو حكومي أو حزبي آخر ولا حتى أعضاء برلمانيين من الحزام البرلماني المساند للغنوشي وحكومة المشيشي فضلا عن أن الحضور تميّز بالتهرّم وقلة حضور الشباب واليافعين وهو ما يؤشر إلى ضمور وانقطاع النسل الحزبي لهذه الحركة وعدم تواصل الأجيال فيها ووجود فجوة وهوّة حزبية وسياسية في داخل التركيبة العضوية النهضوية وانحصار عمليّة التجديد والتشبيب والتكامل والانتعاش في جسم الحركة وتجسّد ذلك في الاستجابة الضامرة والمُرهقة وغير الصاخبة لحظة ترديد ورفع الشعارات.
3- مسيرة مغامرة ومراهقة تحقن أضدادها وخصومها وتستفزّ مناوئيها
عمد المشتغلون داخل الجسم التنظيمي للنهضة في مواقع التواصل الاجتماعي وأثناء الدعوة للمسيرة التي دامت 3 أسابيع على اتهام الآخرين بالمناوئين والمجرمين والخونة والكافرين والمأجورين والفاشيين الأمر الذي استفزّ المعارضين وبقية فعاليات الشعب التونسي ودفعهم لمقاطعة المسيرة والتغيّب عنها والمساهمة في تشكيل ردّة فعل غاضبة خاصة بعد ما تعرّض له الصحفيّون والصحافيات أثناء تغطيتهم للمسيرة من عنف وإهانة ونيل من الكرامة وكذا موقف رئيس الجمهورية الذي وصفهم "بالمفلسين أخلاقيّا الذين تحرّكهم الحسابات السّياسيّة اللاوطنية".
حقنت المسيرة كل أضدادها واستفزّت مناوئيها ولم تراعِ ردّة الفعل المتوقعة والمنتظرة في الأشهر والسنوات القادمة، وذلك زمن بلوغ الفشل منتهاه من طرف شارع الغضب وشارع المعاناة في الجهات والضواحي والأحياء وكذلك حين انطلاق المارد وطائر الفينيق من تحت الرماد كردّة فعل عن المسيرات المجيّرة ومظاهرات البروباجاندا الدعائية المضللة وخاصة في حال تلقّت ضوءً أخضرَ أو تلميحا مرمّزا من طرف رئيس الجمهورية الذي أصبح يعتمد مفردات التحريض عند كل ظهور أو تحرّك أو خطاب، وأضحت النهضة ترى فيه خطرا يهدّد استمرار واستقرار المؤسسات المنتخبة كما تراه عنصر تعطيل للحكومة وعامل تهديد لاستقرارها ودوامها وبقائها.
راهن الغنوشي في حسم الخلاف القائم بينه وبين رئيس الجمهورية على اعتماد آلية إقحام الشارع فيه. وفي اعتقادي أن الشارع الذي أقحموه لحسم الخلافات ليس هو شارع الحافلات والاحتفاليات بل هو شارع الغضب والاحتقان وهو الشارع المعادي في جلّه للنهضة وفي كلّه يعادي كل ما يتصل بالسيستم والحكم والنظام والتنظّم.
أعتقد أن مثل هذه المسيرات المراهقة والمغامرة قد تعمّق الانقسام المجتمعي وتزيد من عزلة الحركة سياسيّا ومجتمعيّا ومدنيّا وتُفاقم من منسوب الاحتقان والغضب تجاهها وتسارع لحصرها في الزاوية بغية الانفراد بها والإجهاز عليها مدنيا وسياسيا بمثل ما حصل في عام 1991 ولكن ليس بالطريقة الأمنية.
4- مسيرة وضعت النهضة في عنق الزجاجة وحمّلتها وزر عقد كامل من الإخفاقات والفشل والأزمات:
منذ 2012 زمن حكم "الترويكا" وإلى حدّ هذه اللحظة دأبت حركة النهضة على التملّص من مسؤولية حكم البلاد وتَحَمّلِ نتائج ذلك بكل روح رياضية، كما التبرّؤ من كافة التداعيات السلبية الناجمة عن حكمها والتي أصبحت تنذر بتحويل تونس إلى دولة مفلسة يتحكم بها المُقرض الدولي وسفراء البلدان الأجنبية وبذلك أضحت شرعية الديمقراطية فيها رهينة الفشل السياسي والعجز الكامل عن إدارة حكم ناجع يُخلّصها من تهديد الدولة والديمقراطية كما الشرعية الانتخابية والتي باتت في مهب عواصف الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والمالية فضلا عن ارتهان سيادتها الوطنية لصالح اشتراطات الصناديق الدولية.
وبهكذا مسيرة فقد تبنت النهضة ضمنيا وزر التبعات الثقيلة لإرث سابق ولعشرية حكم فاشل ولتحدٍّ مطلوب منه إنقاذ اقتصاد البلاد في أسرع الآجال، وهي بذلك ستتحمل وحدها مسؤولية كل التداعيات الاقتصادية والاجتماعية والمالية وكل الأزمات المنجرّة عنها مستقبلا.
وإنّ أي حراك سيحصل مستقبلا سيكون ضدّ منظومتها السياسية وكل المؤسسات المنبثقة عنها وضدّ قياداتها وحكومتها وحزبها ومنوال حكمها، فالجميع سيطالبها بالمنجزات والنتائج إزاء مظاهر الزهو والفرح الذي أظهرته والقوة والقدرة والاقتدار الذي تمّ إبرازه وتظهيره في هذه المسيرة مثلها كمثل العجوز الذي حملها الواد إلى التهلكة وهي تدعو لمزيد هطول الغيث. و"العزوزة هاززها الواد وهي تقول العام صابة" وسيحاسبها الجميع وحيدة وذلك عن الأخطاء والفشل المتوقع والنكبات والخيبات المحدقة بالبلاد.
5- مسيرة وخطاب لا يستجيبان لحاجيات الشارع الاقتصادية والاجتماعية والتنموية
لم يوجّه الغنوشي خطابه لجماعته -الإخوان- وإنما وجه خطابه إلى الآخرين الذين استنكفوا مشاركته المسيرة وعارضوه بالحكم، لذلك ركز في كلمته على مبادئ الوحدة والإخاء مع مختلف الفعاليات السياسية والمدنية وطالبهم بركوب السفينة وقيادتها معا بمثل نموذج تلك الكتلة التاريخية والتحالف المشترك الذي شكله المعارضون أيام سلطة "بن علي" وهو تحالف (18 أكتوبر) بل إن الغنوشي قد قفز في الفضاء ودعى إلى وحدة تجمع بين الجميع بما فيهم رموز النظام القديم (الدساترة) اعتقادا منه أنه بتعيينه الغرياني مستشارا له بالبرلمان قد أصبح رمزا تجميعيا قادرا على نشر مفهوم المصالحة والوحدة الشاملة وأيضا قادر على الترويج لفكرة وجود خصم واحد للجميع وهو رئيس الجمهورية الذي يستهدف الشرعية والديمقراطية ونظام الحكم.
رغم ذلك قوبل خطاب الغنوشي بالرفض المطلق من جميع وكافة الفعاليات السياسية والاجتماعية والمدنية وخاصة على إثر بروز دلالات تثبت حاجته الأكيدة لكل الأطياف وذلك من أجل تحقيق استمراره بالحكم والنجاح فيه، وهو ما اعتبره المعارضون نداء حاجة واستغاثة غريق يُرادُ منها إنقاذ نفسه وليس إنقاذ البلاد، خاصة إذا علمنا أن كافة الفعاليات قد اشترطوا عليه من أجل تجسيد فكرة التضامن والوحدة استقالته من رئاسة البرلمان وذلك في أكثر من مناسبة باعتباره قد أصبح سببا في المشكل وليس سببا في الحل وهو ما رفضه بقوة وقايض الجميع وبكل الطرق الملتوية من أجل استبعاد هذه الفرضية وهذا الحل والمقترحات المطروحة.
إضافة إلى ذلك فقد فقدت الأطراف السياسية والمدنية والمهنية ثقتها بمدلولات "خطاب يوم المسيرة" وشككت في مدى صدقيته، ولم يشذ عن ذلك أحد بما في ذلك بعض قيادات حزبه الذين أضحوا يرون فيه سببا في تخليق المشاكل وليس سببا في إيجاد الحلول واستنكفوا عن الحضور في هذه المسيرة وشككوا حتى في صدقية الشعارات المرفوعة ونزاهة الدعوات المعلنة.
تجدر الإشارة هنا إلى أن الحلول التي طرحها الغنوشي في خطابه كانت طوباوية ولا ترقى إلى تصنيفها في مصاف الحلول المقبولة أو المنطقية وحتّى تشخيصه للمشاكل كان طرفيا أعرجا وهو الذي اختصر مشكل البلاد والأزمة القائمة فيها باختزالها في المشكل السياسي فقط حيث روّج لخطاب فوقي متعال دافع فيه عن الديمقراطية والشرعية فحسب، وغيّب المسألة الاقتصادية والاجتماعية وغمز لحلول طوباوية غير معقولة ولا مقبولة وخاصة في موضوع الدكاترة المعطلين عن العمل والذين فقدوا مواطن شغلهم حيث دعاهم إلى تعلّم حرفة عوض المطالبة بحقهم في الشغل أو حقهم في التعمق في البحوث العلمية.
وباختصار كان خطابه طوباويا تعبويّا لا يمت للخطاب السياسي بصلة فضلا عن أنه خطاب لا يسمن ولا يغني من جوع من جهة الحلول التي يطرحها وهو غير مقنع لا لأصدقائه ولا لخصومه ولا لشركائه في الحكم ولذلك لم يلق التفاعل المطلوب منه وفيه .
6 - مسيرة بمثابة رقصة الديك المذبوح:
اعتاد الناس أن يُشَبّهوا صاحب الحركات الكثيرة والسريعة والمتشنجة والمترنحة وغير المتوازنة بـ"رقصة الديك" المذبوح أو رقصة "الموت" وشهدنا طيلة تاريخنا الحاضر نماذج لمثل هذه الحالات وهذه الحركات فخطاب "صدام" وخطاب "الصحّاف" قبل سقوط بغداد كان مثلا قويا ودليلا قاطعا على أن التاريخ يعيد نفسه وكان خطاب "عبد الناصر" أثناء (نكسة67) علامة مسجلة في الدائرة الخاصة لمثل هذه العلامات أما خطاب" حسني مبارك" و"بن علي" فعلامتهما في هذا الاتجاه كانت تعبيرية تجسّد حقيقةً وواقعًا رقصة الديك أثناء لفظ أنفاسه الأخيرة وغرغرة خاتمة تكشف عمق اليأس في تلمّس الحلول وإنقاذ الذات والتخلص من الفشل، وكذا كان خطاب الغنوشي يوم المسيرة متباينا عما جاء في خطاباته المبثوثة في مدة 10 سنوات حيث كانت قصووِيّة وإقصائية وعنيفة وغريبة عن الواقع التونسي رغم سَمْتِ الهدوء الذي تميّزَ به وكان آخرها الخطاب الذي عبّر فيه عن عزمه تغيير نظام الحكم من نظام برلماني مختلط إلى نظام برلماني كامل وذلك كردّة فعل على خطاب رئيس الجمهورية قيس سعيد.
لقد أَفقد الغنوشي مضمون خطابه المتسم بروح التجميع والتأليف صدقيته والتزامه ومبدئيته وأرداه ذبيح ازدواجية خطاب تكرّر طيلة عشر سنوات ولم يُصدّقه فيه أحد فـ"الماء كذّب الغطّاس".
7- مسيرة ارتداد رموز الدولة عن الالتزام بالإجراءات والبروتوكولات الصحية الواجبة:
أسقطت المسيرة كل نواميس الانضباط والالتزام بهيبة الدولة حيث تم خرق كل الإجراءات الإحتياطية المعمول بها وكل البروتوكولات الصحية الواجب الالتزام بها من طرف الدولة ورموزها والتي فرضت على الجميع طيلة عام كامل شروطا وترتيبات تُوجب هي تنفيذها وتعاقب المخالفين عنها وكانت كلفة هذه الإجراءات تَعَرّضِ الاقتصاد التونسي إلى عجز مالي وأزمة اقتصادية وإفلاس شبه كامل لأكثر من 50%من المؤسسات الصغرى والمتوسطة ومستوى نموّ سلبي بلغ %9-، كما تسببت هذه الإجراءات في إرباك الإدارة وشل دورها وعجزٍ في سداد الديون البالغة 100 ألف مليار وكذا العجز في سداد أجور الموظفين والمتقاعدين وحصل إرباك أيضا لدى المشتغلين بالأعمال والمهن الخاصة وصل إلى حدّ عجزهم عن سداد ديونهم وحتى عن ضمان عيشهم الكريم وذلك بسبب التزام الجميع بالبروتوكولات والإجراءات الصحية والتراتيب الإحتياطية ثمّ تأتي المسيرة لتخرّب وتخرق كل هذه الإجراءات وترسل إشارات واضحة تعتمد ازدواجية قاتلة في إنفاذ القوانين ولتبرّر مستقبلا قيام أي حركة تمرّد تصدر عن أي طرف يعمد خرق الإجراءات الصحية وهو ما قد ينعكس سلبا على الصحة العامة ويفاقم من عدد الوفيات الذي فاق 8000 فرد ويضرّ بالمجتمع والدولة ويدمر كل ما تبقى من إمكانيات وتجهيزات طبية وصحية شبه مهترئة.
وقد تجسدت ملامح هذا التمرد بعد المسيرة مباشرة وذلك في إعلان خمسة (5)نقابات مهنية مواقف امتعاضية وإصدارها بيانات تطالب بإنهاء العمل بالإجراءات الصحية ووقف التعامل بازدواجية المعايير.
يُذكرُ أن الهيئة الصحية قد حمّلت المسؤولية لكافة الأحزاب السياسية التي خرقت الإجراءات الصحية وحذّرت من موجة أخطر وانتشار أكبر لفيروس كورونا في الأيام القريبة القادمة جراء هذه التجاوزات وهذه التجمعات الكبيرة التي حصلت في البلاد وصدرت عمّن هم بالحكم وعن المعارضين سواء بسواء.
نخلص إلى أن مسيرة يوم 27 فبراير كانت لها انعكاسات خطيرة على علاقة جماعة الحكم برئيس الجمهورية وارتدادات أكبر على مستوى استقرار الحكومة، وأيضا كانت لها تداعيات غير محمودة على البرلمان كما حصول انفلات في المستوى المجتمعي وتمرد غير مسبوق على القوانين سيصدر من الجميع ومن دون استثناء.
ملحوظة: مضمون هذا الخبر تم كتابته بواسطة بوابة فيتو ولا يعبر عن وجهة نظر مصر اليوم وانما تم نقله بمحتواه كما هو من بوابة فيتو ونحن غير مسئولين عن محتوى الخبر والعهدة علي المصدر السابق ذكرة.