إمام ورئيس وشاعر كانوا السبب فى الحرص على السفر إلى صنعاء الإمام هو فخر الدين الرازى الفقيه والعالم وسلطان المتكلمين وشيخ المعقول والمنقول وقال الرازى أن صنعاء هى الأولى والأجمل والأبقى والأحق أطيب بلاد الله ولن تذهب الدنيا حتى تصير صنعاء أعظم مدينة فى العرب وإن قال لك أحد أنه رأى مكانا أطيب من صنعاء فلا تصدقه وكان الرئيس هو على عبدالله صالح الذى وافق بمساعدة أصدقاء كثيرين فى صنعاء على أن أجرى معه حوارا أحاول فيه إقناعه والحصول على موافقته لبدء أحد مشروعات الجودو من أجل السلام لمصلحة الفتيات الصغيرات فى اليمن أما الشاعر فهو عبد العزيز المقالح أكبر وأهم وأشهر شعراء اليمن ورئيس جامعة صنعاء والذى قال فى إحدى قصائده بكل مقهى قد شربنا دمعها لله ما أحلى الدموع وما أمر وعلى المواويل الحزينة كم بكت أعماقنا وتمزقت فوق الوتر ولكم رقصنا في ليالي بؤسنا رقص الطيور تخلعت عنها الشجر صنعاء وإن أغفت على أحزانها حيناً وطال بها التبلد والخدر سيثور في وجه الظلام صباحها حتما ويغسل جدبها يوماً مطر يوما تغنى فى منافينا القدر لابد من صنعاء وإن طال السفر.
وفور تحديد موعد الحوار كنت فى طائرة مصرية مسافرة إلى صنعاء فى إحدى ليالى شهر رمضان فى 2007 وخلال الثلاث ساعات اللازمة للوصول إلى صنعاء لم أكن منشغلا بما سأقوله للرئيس وكيف سأقنعه بمشروع رياضى قد لا يوافق هوى كثيرين هناك لا يزالون يرفضون منح أى فتاة كل أو بعض حقوقها الإنسانية والرياضية .. إنما المشاعر والأفكار كلها عن صنعاء إحدى أقدم مدن العالم التى لا تزال على قيد الحياة مدينة التاريخ والخيال والحكايات والأساطير التى يقال أنها كانت أول مدينة يتم تشييدها بعد طوفان نوح وبناها عاصمة مملكة سبأ التى عاشت كثيرا تحتمى بجبالها وأغلقت على نفسها أبوابها السبعة وبنت أول ناطحات سحاب عرفها العالم ورغم الحروب الكثيرة التى عاشتها صنعاء إلا أنها حاولت ونجحت فى المحافظة على بيوتها المميزة التى لا تشبهها أى بيوت أخرى فى أى مدينة فى العالم فصنعاء فى اللغات القديمة تعنى الحصن.
وفى مطار صنعاء كان صديقى نجيب فى انتظارى وقد أبلغ ضباط الجوازات أننى صحفى مصرى قادم لإجراء حوار للرئيس على عبدالله صالح لجريدة الأهرام وكانت كلمة الرئيس كافية جدا لإنهاء كل الإجراءات بسرعة والخروج من المطار محاصرا بنظرات كثيرين بعضها كانت تتضمن الإعجاب والإحترام باعتبارى ضيف الرئيس وبعضها الآخر كانت تحمل دهشة واستغراب مما قد يقوله الرئيس عن اليمن وأحواله وفى الطريق إلى الفندق .. كانت الشوارع هادئة خالية من زحام السيارات والوجوه فصنعاء كانت تنتظر آذان الفجر وتستعد وتتأهب لاستقبال يوم صيام جديد واستجاب صديقى نجيب لإصرار السائق واسمه شايف على ضرورة أن نأكل أولا قبل الفجر وكان الطعام جميلا وبسيطا فى مطعم الشيبانى ومعه كثير من الكلام والحكايات عن صنعاء وأهلها وانتهت ليلتى الأولى فى صنعاء فى غرفة صغيرة جميلة بفندق تاج سبأ فى قلب مدينة صنعاء
وكان من المفترض أن أجرى الحوار مع الرئيس فى اليوم التالى وأعود بعدها إلى القاهرة ومنها إلى جنيف .. لكن أولى مفاجأت يومى الأول فى صنعاء كانت تأجيل الموعد مع الرئيس يومين .. ولم أشعر بأى استياء لأكثر من سبب فأنا لست مسئولا فى مهمة رسمية إنما مجرد صحفى سيجرى حوارا وافق عليه الرئيس وجاء يأمل فى إتمام مهمة إنسانية كما أن التأجيل سيعنى إتاحة فرصة لرؤية صنعاء والإقتراب أكثر من أهلها وبيوتها وكان أول ما رأيته فى صنعاء هو باب اليمن أحد أبواب المدينة عبرته وكأننى انتقلت إلى عالم آخر قديم وجميل مسكون بحكايات وأساطير لا أول لها أو آخر أو كأننى استعدت التاريخ من جديد ليصبح واقعا أعيش فيه وألمسه بالقلب والعينين وفى الحقيقة كانت صنعاء كلها كأنها مدينة لم يبنها أهلها إنما قاموا برسمها فأصبحت من أجمل مدن العالم فى شكلها وطراز بيوتها ويعتز أهل صنعاء كثيرا ببيوتهم ويرددون دائما أن البيت ينبغى أن يصبح أول ما يشتريه الإنسان وآخر ما يفكر فى بيعه ويعتز أهل صنعاء أيضا بجامعهم الكبير تم بناؤه فى السنة السادسة للهجرة بطلب من الرسول عليه الصلاة والسلام وكان من أولى المساجد التى اكتمل بناوها فى عهد الرسول وأعاد بناءه وتوسعته الخليفة الوليد بن عبد الملك وفى 1965 تسببت السيول فى أضرار كثيرة وأثناء الترميم تم اكتشاف 12 مصحفا أحدها مكتوب بخط يد الإمام على بن أبى طالب إلى جانب أربعة آلاف مخطوطة نادرة فأينما ذهبت فى صنعاء سيلحقك التاريخ ويسرقك من حاضرك لتنسى حزنه وجروحه وتزداد ثقة بان صنعاء من المدن التى لا تموت مهما كبر حزنها وعذابها ومهما زادت دموعها وجروحها.
وعند آذان المغرب تناولت إفطارى الأول فى صنعاء مع نجيب وباقى الأصدقاء وفى مطعم بسيط وجميل فى شارع حدة الذى هو أحد أطول وأشهر شوارع صنعاء كان التمر والماء وشراب الزبيب والمندى والقهوة واستكمال حكايات صنعاء مع أهل صنعاء التى ليس من الصعب فيها أن تشعر أنك وسط اهلك .. كأنك تعرف منذ وقت طويل أصحاب هذه الوجوه الطيبة والمتعبة فلا تشعر وسطهم بأى غربة .. ورأيت فى اليوم التالى المتحف الحربى الذى يحكى عن حروب كثيرة عاشتها ودفعت ثمنها صنعاء وكانت مصر حاضرة وكانت هناك صورة لنبيل الوقاد أول شهيد مصرى فى اليمن وهناك أيضا شارع جمال عبد الناصر وتذكرت أيضا الأديب المصرى العالمى الكبير نجيب محفوظ الذى لم يسافر خارج مصر إلا ثلاث مرات فقط الأولى إلى يوجوسلافيا 1951 بأمر رئاسى من جمال عبد الناصر والثالثة إلى لندن للعلاج 1989 وإلى صنعاء كانت زيارته الثانية 1963 وسافر محفوظ إلى صنعاء بطلب من عبد الحكيم عامر وقال فيما بعد ليوسف القعيد كيف أدهشه جبل صبر وكيف شعر وقتها انه فى الجنة أشجار وورود وأزهار وجمال تعجز عن وصفه الكلمت حتى لو كان صاحبها احد الفائزين بجائزة نوبل للأدب وفى رواية الباقى من الزمن ساعة قال احد شخوص الرواية هل سمعت ما يقال عن أغنية أم كلثوم ها اسيبك للزمن وأن أصلها كان ها اسيبك لليمن.
وفى اليوم الثالث .. كان الإعتذار من جديد وتأجيل موعد الرئيس للمرة الثانية لكنه كان اعتذارا جاء على لسان اثنين من أبناء الرئيس على عبدالله صالح حين ذهبت إليهما فى بيتهما وقضيت معهما وقتا طويلا .. ورغم هذا اللقاء شعرت بأن حوار الرئيس لن يتم دون أن يعنى ذلك نهاية رحلة غرام واحترام صنعاء ومع أحد الأصدقاء عرفت عن قرب عالم القات فى اليمن أو وباء اليمن الذى من أجله تراجعت وانحسرت زراعة البن الذى هو الأفخر والأغلى فى العالم كله لان ستين بالمائة من المياة يتم استخدامها لزراعة القات وليس البن وهو أوراق يتم قطفها من شجر صغير ثم مضغها ليخرج منها الكاثينون الذى يشبه الأمفيتامين وبسرعة يتحول مضغ القات إلى إدمان وينتج عنه استرخاء كامل للعقل والجسد وفى شوارع صنعاء رأيت زحام الوجوه والسيارات حول كل بائع للقات وعرفت الأنواع الجيدة والرديئة والصابحة وطقوس ممارسة المضغ او التخزين وكيف يتم غسيل النبات وتخزينه وكيف أصبح يمنيون كثيرون ضحايا للقات سواء كانوا كبارا أو صغارا ورجالا أو نساء ومسئولين أو مهمشين وقال لى صديقى أنه واحد من خمسة بالمائة من اليمنيين الذين لا يمضغون القات ولم أقبل دعوة كثيرين لمشاركتهم مضغ القات لكننى حضرت جلسات القات التى تمتد ساعات طويلة يسود معظمها الصمت وكأن كل انسان قرر الاكتفاء بذاته والاستغناء عن بقية العالم وبدلا من شراء القات اشتريت البن والعسل الجبلى اليمنى واشتريت قميصا من فوق الرصيف حيث لم أر فى أى مدينة أخرى هذا الكم الهائل من القمصان المعروضة للبيع فوق أرصفة الشوارع.
ولأن الانتظار أطول من ذلك كان صعبا بات من الضرورى نسيان حوار الرئيس الذى لن يتم رغم أنه كان الهدف من السفر وكان العزاء هو رؤية صنعاء التى كانت المكافآة والجائزة وعرفت لماذا يقول الكثيرون لابد من صنعاء وإن طال السفر وفى ليلتى الأخيرة فى صنعاء تناولت الإفطار فى خيمة وأكلت اللحم وخبز الملوج وجلست خارج الخيمة وسط كثيرين من اليمنيين الغرباء كلنا حول شاشة تليفزيون ضخمة تعرض مسلسل درامى يمنى فى دقائق قليلة اكتشفت أننى الوحيد الذى لا يهتم ولا يضحك مع أحداث المسلسل أحسست بالحرج والخجل فبدأت أتابع محاولا أن أفهم اللهجة وما وراء كلمات الممثلين ومع كوب شاى جديد أخيرا بدون لبن تملكنى احساس أننى فى بلدى وأننى لست غريبا ولا عابر سبيل وسط هؤلاء أصبحت منهم مثلما أصبح كل هؤلاء جزء منى كل من أراهم اصبحوا أهلى الشارع ملكى صنعاء كلها مدينتى إحساس يصعب أن يسكنك فى أى مدينة أخرى خارج بلدك ومع أية وجوه أخرى إلا أهلك.
ملحوظة: مضمون هذا الخبر تم كتابته بواسطة الطريق ولا يعبر عن وجهة نظر مصر اليوم وانما تم نقله بمحتواه كما هو من الطريق ونحن غير مسئولين عن محتوى الخبر والعهدة علي المصدر السابق ذكرة.
انتبه: مضمون هذا الخبر تم كتابته بواسطة مصر اليوم ولا يعبر عن وجهة نظر مصر اليوم وانما تم نقله بمحتواه كما هو من مصر اليوم ونحن غير مسئولين عن محتوى الخبر والعهدة علي المصدر السابق ذكرة.