في ليلةٍ ثلجية من شتاء كييف، وبين أصوات صفارات الإنذار ووميض الانفجارات، يُضم طفل أوكراني إلى صدر أمه، يغمره البكاء كأن صوته وحده يعلن للعالم: “أنا هنا، أنقذوني”. خلال دقائق، يتداول الملايين صورته، تتسابق الشاشات الكبرى لبث مأساته، وتكتب الصحف “هذا الطفل لا يشبه الحرب، بل يشبه أبناءنا”، تُعقد القمم، تُفتح الحدود، وتنهال المساعدات من كل صوب، الطفل لم يمت، لكن العالم بكى من أجله.
وفي زاوية أُخرى من الجغرافيا، لا ثلج هنا بل ركام طفلٌ فلسطيني يُنتشل من بين حجارة بيت كان بالأمس مسكنًا وضحكًا وخبزًا دافئًا، جسده مُغطى بالغبار، يداه الصغيرتان ممدودتان كأنهما تبحثان عن حضن لم يُسعفه الوقت، لا بكاء، لا كاميرات تقترب، فقط عدسة هاتف توثق لحظة الرحيل، العالم لا يسمع، لا يتحرك، لا يتنهد، الخبر يُبث في شريط الأخبار السفلية “مقتل عشرات في غارة إسرائيلية على غزة”، الطفل مات، لكن العالم لم يرف له جفن.
في مشهدين يفصل بينهما آلاف الكيلومترات، تسقط الأقنعة، الإنسانية ليست واحدة، والدماء ليست متساوية، هناك من يُمنح حق الحياة فقط لأنه يُشبههم، وهناك من يُقتل مرتين، مرة تحت القصف، ومرة في صمت العالم.
شهدت غزة عدة حروب وتصعيدات عسكرية بين جيش الإحتلال والفصائل الفلسطينية، تفاقم الوضع بشكل غير مسبوق في 7 أكتوبر 2023 عندما شنّت حماس هجومًا مفاجئًا عبر السياج على جنوب دولة الإحتلال، ردّت إسرائيل بإعلان الحرب وبدء حملة عسكرية واسعة النطاق على قطاع غزة، خلال هذه الحملة (من أواخر 2023 وطوال 2024)، تعرض القطاع لقصف عنيف واجتياح بري، ما أدى إلى دمار هائل في البنية التحتية وموجات نزوح داخلي شملت تقريبًا كافة سكان غزة البالغ عددهم أكثر من مليوني نسمة، وبلغت حصيلة الضحايا الفلسطينيين مستويات صادمة؛ إذ قدّرت مصادر صحية محلية سقوط نحو 44 ألف قتيل فلسطيني خلال ما يزيد قليلاً عن عام من القتال ، بينهم آلاف الأطفال، فضلاً عن أكثر من 70 ألف جريح، هذه الأرقام غير مسبوقة حتى بالمقارنة مع النزاعات العالمية الأخرى، حيث أشارت الأمم المتحدة إلى أن عدد الأطفال الذين قُتلوا في غزة خلال أربعة أشهر فاق عدد من قُتلوا في جميع نزاعات العالم خلال أربع سنوات، وقد وصفت الأمم المتحدة الوضع الإنساني في غزة بأنه كارثي مع انهيار الخدمات الأساسية من كهرباء ومياه وصرف صحي في ظل الحصار والقصف.
بهذا المشهد الدامي، برز سؤال ملحّ: لماذا تعاطف الخطاب الغربي الرسمي والإعلامي بقوة مع أوكرانيا في وجه الغزو الروسي، بينما كان تفاعله مختلفًا جذريًا مع الفلسطينيين في غزة تحت القصف والحصار؟ فيما يلي، نقارن جوانب الخطاب والتغطية والقانون الدولي بين الحالتين، ونحلل العوامل الكامنة وراء هذا التباين.
الخطاب السياسي الغربي لغة ومواقف متباينة
أدان الغرب غزو روسيا لأوكرانيا منذ اليوم الأول بشكل قاطع، واصفًا إياه بـ”العدوان غير المبرر” وانتهاكًا صارخًا لسيادة دولة مستقلة، توحدت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في دعم كييف سياسيًا وعسكريًا، وفرضت عقوبات غير مسبوقة على موسكو، في المقابل، عند تفجر الحرب بين إسرائيل وحماس في غزة، أعرب القادة الغربيون عن دعم قوي لـ“حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها”، بينما قلّما سمعنا إدانة صريحة بحجم مماثل لقتل المدنيين الفلسطينيين أو خرق حقوقهم، هذا التناقض لم يمر مرور الكرام في نظر الكثيرين؛ فقد ازدادت الانتقادات العالمية لاسيما في الجنوب العالمي إزاء ما يعتبرونه معايير مزدوجة في مواقف الغرب، فالدول الغربية التي ملأت خطابها بعبارات التنديد بـ”احتلال” روسيا لأراضي أوكرانيا و”جرائمها” ضد المدنيين هناك، هي نفسها التي تبنّت رواية مخففة تجاه احتلال إسرائيل المطوّل للأراضي الفلسطينية ومعاناة المدنيين تحت القصف والحصار .
لغة الخطاب السياسي اختلفت جذريًا بين الأزمتين، على سبيل المثال، سارع القادة الأمريكيون والأوروبيون إلى وصف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بأنه “مجرم حرب” ودعموا جهود المحكمة الجنائية الدولية لمحاسبته، بينما تجنبوا إلى حد كبير أي حديث مماثل عن مسؤولية قادة إسرائيل حيال الفظائع في غزة، وفي حين يُشاد بالمقاومة الأوكرانية وتُسمى قواتها “مدافعين عن الحرية”، يُوصم نظال الفلسطينيين المسلح غالبًا بالإرهاب دون تفصيل للسياق التاريخي للاحتلال، وكما عبّر صحفي بريطاني بارز منتقدًا: هناك “ازدواجية واضحة في تأييد أعمال عنف ضد أهداف مدنية عندما تقوم بها أوكرانيا (باعتبارها تواجه احتلالًا)، وفي إدانة نفس تلك الأعمال تمامًا عندما يقوم بها الفلسطينيون”، هذا التصريح يلخّص نظرة شريحة واسعة من المراقبين بأن من يكافح عدونا يُمنح صفة “مقاتل من أجل الحرية”، أما من يكافح حليفنا فيُوسَم بـ”الإرهاب”، لقد أصبح موقف الغرب المنحاز لإسرائيل في حربها على غزة – مقابل موقفه المندد بروسيا في أوكرانيا – مثالًا حيًا على النفاق السياسي في نظر الكثيرين، بما في ذلك بعض حلفاء الغرب أنفسهم.
التغطية الإعلامية الغربية تحليل لغوي ومقارنة
انعكست هذه الازدواجية أيضًا في تغطية وسائل الإعلام الغربية لكلتا القضيتين، فقد حظيت معاناة الأوكرانيين تحت القصف الروسي بتغطية مكثفة ومؤثرة، اتسمت باستخدام لغة عاطفية قوية وتصوير الروس كمعتدين بلا جدال، في المقابل، بدا أن تغطية الإعلام الغربي التقليدي لمعاناة الفلسطينيين في غزة اتسمت بحذر وانتقائية في اللغة، دراسة إعلامية مقارنة وجدت أن قناتي CNN وMSNBC الأمريكيتين قدمتا تغطية أقل تعاطفًا وإنسانية بكثير مع الفلسطينيين في غزة مقارنة بتغطيتها للأوكرانيين خلال المدة الزمنية نفسها، على سبيل المثال، خلال أول 100 يوم من حرب أوكرانيا، حظي كل طفل أوكراني يُقتل بحوالي 16 ذِكْرًا في التغطية الإعلامية، بينما حظي كل طفل فلسطيني يُقتل في غزة بأقل من نصف ذِكر (حوالي 0.36) – رغم أن عدد الأطفال القتلى في غزة كان أضعاف نظرائهم في أوكرانيا، كما أن مصطلحات مثل “جرائم حرب” و”إبادة جماعية” استُخدمت في سياق الحديث عن أفعال روسيا بأوكرانيا بمعدل يفوق استخدامها لوصف أفعال إسرائيل في غزة بـ17 مرة بحسب نفس الدراسة .
لم تقتصر الفروق على الكم، بل شملت نوعية اللغة، في تغطية أوكرانيا، كثيرًا ما استُخدمت صياغات المبني للمعلوم: “روسيا قصفت المستشفى الفلاني وقتلت عشرات المدنيين”، أما في حالة غزة، فكثيرًا ما لجأت وسائل الإعلام إلى المبني للمجهول أو تبني الرواية الإسرائيلية: “قُتل عشرات في قصف على غزة، وإسرائيل تقول إنها تستهدف مواقع حماس”، وتم إبراز معاناة الإسرائيليين من هجمات حماس بتفصيل وتعاطف، بينما تم تقديم مأساة المدنيين الغزيين بأرقام جافة يصاحبها غالبًا التشكيك (بحسب وزارة الصحة التي تديرها حماس)، مما يضفي ظلًا من الشك على روايتهم، حتى الوصف للشخصيات المقاتلة اختلف الأوكراني الذي يصنع قنبلة مولوتوف يوصف بأنه بطل يقاوم الغزو، أما الفلسطيني الذي يحمل سلاحًا بدائيًا للدفاع عن أرضه فهو “إرهابي” في كثير من المنابر الغربية، ودأبت وسائل الإعلام الغربية على توصيف أفعال الفلسطينيين بكلمات مثل “إرهابيين” و”مسلحين” و”صواريخ” بينما تُوصف أفعال إسرائيل بدفاع عن النفس أو رد انتقامي، هذه الازدواجية في السرد تساهم في تبرئة إسرائيل ضمنيًا من المسؤولية وتصويرها كضحية تدافع عن نفسها، في حين يُصوَّر الفلسطيني دومًا كمشكلة أو خطر، باختصار، الإعلام الغربي السائد – مع استثناءات – إنحاز سرديًا لصالح أوكرانيا وضد روسيا، وكذلك لصالح إسرائيل ضد الفلسطينيين، مستخدمًا معيارين مختلفين جذريًا في اللغة والتحليل.
ومن الجدير بالذكر أن هذا الانحياز الإعلامي لم يمر دون انتقاد، فخبراء ومدافعون عن أخلاقيات الإعلام دعوا القنوات الغربية إلى رفع مستوى تغطية معاناة غزة لتوازي النبرة الأخلاقية العاجلة التي غطت بها مأساة أوكرانيا ، بدلًا من خفض تغطية أوكرانيا، لكن حتى الآن، تبقى الفجوة واضحة، فقد وثَّق الباحثون أن القنوات ذاتها غطّت معاناة المدنيين الأوكرانيين ضعف ما غطّت معاناة المدنيين الغزيين، رغم أن حصيلة القتلى في غزة بلغت خمسة أضعاف مثيلتها في أوكرانيا، كل ذلك يُبرز أن الإعلام، بقصد أو دون قصد، عكس أولويات السياسة الغربية وتحَيُّزاتها، وأسهم في تشكيل رواية عالمية تكيل بمكيالين تجاه الأزمتين.
القانون الدولي وتطبيقه.. أوكرانيا vs غزة
على صعيد القانون الدولي ومؤسساته، برز تباين آخر في التعامل مع الحالتين، فمع بداية الحرب في أوكرانيا، تحركت المنظومة الدولية بسرعة، عقد مجلس الأمن الدولي جلسات طارئة – ورغم شلل المجلس بسبب حق النقض الروسي، تمكنت الجمعية العامة للأمم المتحدة من تمرير قرار بأغلبية ساحقة (141 دولة مع القرار مقابل 5 ضد) يطالب روسيا بإنهاء العدوان والانسحاب الفوري، كما أحالت عشرات الدول قضية أوكرانيا إلى المحكمة الجنائية الدولية (ICC)، التي فتحت تحقيقًا عاجلًا في جرائم الحرب هناك، وبحلول عام 2023، أصدر مدعي المحكمة مذكرة توقيف تاريخية بحق الرئيس الروسي بوتين على خلفية اتهامات بترحيل أطفال أوكرانيين بشكل غير قانوني، هذا التفاعل الدولي السريع عكس إصرار الغرب وحلفائه على فرض المحاسبة في الحالة الأوكرانية، رغم العوائق السياسية.
أما في حالة فلسطين وغزة، فالصورة مختلفة، فعلى مدى عقود من الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية وما رافقه من حروب وحصار، بقي مجلس الأمن عاجزًا عن اتخاذ أي إجراء فعّال بسبب الفيتو الأمريكي المتكرر دفاعًا عن إسرائيل، خلال حرب 2023 على غزة، استخدمت الولايات المتحدة حق النقض عدة مرات لإفشال قرارات تدعو لهدنة أو وقف إطلاق نار لأسباب إنسانية، في إحدى تلك الحالات في أكتوبر 2023، كانت واشنطن العضو الوحيد الذي صوّت ضد مشروع قرار لوقف القتال، لتُحبط تبنيه رغم تأييد 14 عضوًا آخر، هذا التعطيل المستمر دفع الجمعية العامة للأمم المتحدة إلى التحرك مرة أخرى، حيث تبنّت قرارًا في 27 أكتوبر 2023 بأغلبية 120 دولة يدعو إلى هدنة إنسانية فورية في غزة – ورغم كونه قرارًا غير ملزم، فإنه عكَس استياء دوليًا واسعًا من استمرار القتال، لكن حتى قرارات الجمعية العامة ونداءات الأمين العام للأمم المتحدة قوبلت بتجاهل على الأرض، مع استمرار العمليات العسكرية الإسرائيلية.
أما المحكمة الجنائية الدولية، فهي تواجه موقفًا شائكًا في الملف الفلسطيني، فلسطين انضمت رسميًا لنظام روما الأساسي عام 2015، ما يمنح المحكمة ولاية قضائية على الجرائم المرتكبة في الأراضي الفلسطينية، وبالفعل فتحت المدعية السابقة فاتو بنسودا تحقيقًا في جرائم حرب محتملة في فلسطين، بيد أن المدعي الحالي كريم خان لم يُحرز تقدمًا يذكر في هذا الملف حتى اندلاع حرب 2023، انتُقد خان بشدة لتباطؤه؛ إذ خلال عام واحد من بدء مهمته تمكن من تحريك قضايا وإصدار أوامر توقيف في الملف الأوكراني، لكنه في أكثر من عامين على إحالة الملف الفلسطيني لم يصدر أي مذكرة توقيف بحق متورطين، كذلك، كشفت تقارير أن مكتب المدعي خصص موارد مالية وبشرية هائلة لتحقيق أوكرانيا (افتُتح أكبر مكتب ميداني للمحكمة في كييف ونُشر عشرات المحققين) ، بينما خصص أدنى ميزانية بين كل الملفات للتحقيق في فلسطين عام 2023 (أقل من مليون يورو، أي خمس ميزانية أوكرانيا)، لم يقم خان بأي زيارة ميدانية لفلسطين أو إسرائيل قبل أواخر 2023، في حين زار أوكرانيا عدة مرات منذ 2022، هذا التفاوت في الجدية أثار انطباعًا بأن العدالة الدولية نفسها مكبلة بالضغوط السياسية، فالدول الغربية التي دعمت المحكمة في ملاحقة القيادات الروسية، لم تُبدِ حماسة تُذكر لدعم عملها في الأراضي الفلسطينية، وتشير منظمات حقوقية إلى أن قلة فقط من الدول الأعضاء في المحكمة تحدثت علنًا عن ضرورة المحاسبة في فلسطين، على عكس الحماس والتصريحات القوية إزاء أوكرانيا، وقد حذرت هيومن رايتس ووتش من أن هذا التسييس وازدواجية الدعم تقوّض شرعية المحكمة الجنائية الدولية نفسها .
يُضاف إلى ذلك سجل طويل من ازدواجية المعايير في مجلس الأمن، فالولايات المتحدة استخدمت حق النقض عشرات المرات لحماية إسرائيل من أي قرارات تدين انتهاكاتها، بينما لم تتردد مع شركائها في صياغة قرارات صارمة ضد روسيا في أوكرانيا (أُحبطت فقط بالفيتو الروسي)، هذا الواقع جعل كثيرين يرون أن القانون الدولي يُطبَّق بانتقائية تخضع لموازين القوى والتحالفات؛ من كان خصمًا للغرب سيواجه تحقيقات وعقوبات، ومن كان حليفًا للغرب ينال حصانة ضمنية مهما فعل، وكما قال الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش: “علينا التمسك بالمبادئ في أوكرانيا كما في غزة دون معايير مزدوجة” ، مشددًا على أن الانتقائية تقود إلى عالم تسوده الفوضى وشعور الأطراف بأنه يمكنهم الإفلات من العقاب .
هوية الضحية والعنصرية.. تأثير التحيز الثقافي في التعاطف
لا يمكن فهم تباين التعاطف الدولي دون النظر إلى هوية الضحايا وصورهم النمطية في المخيلة الغربية، فقد لعبت الخلفية الثقافية والعرقية دورًا ملموسًا في تشكيل ردود الفعل الشعبية والإعلامية، فالأوكرانيون من منظور الغرب “أوروبيون” مثلهم؛ بل إن بعض المعلقين لم يتورعوا عن قول ذلك صراحة بعبارات وُصفت بالعنصرية، على سبيل المثال، قال مراسل أوروبي على قناة CBS الأمريكية في الأيام الأولى لغزو أوكرانيا: “هذه ليست كأفغانستان أو العراق التي اعتادت الصراعات هذه دولة أوروبية متحضرة”، وفي مقابلة على BBC، قال مسؤول أوكراني بانفعال: “أنا أرى أناسًا أوروبيين بعيون زرقاء وشعر أشقر يُقتلون كل يوم” ، فلم يجده المذيع تعليقًا يستوجب الاعتراض بل رد: “أتفهم مشاعرك”. وفي قناة ITV البريطانية، تحدث صحفي من موقع لجوء أوكرانيين قائلاً: “هذا ليس بلدًا من العالم الثالث النامي، هذه أوروبا!” مثل هذه التصريحات انتشرت وأثارت صدمة واستياء لدى كثيرين، إذ كشفت عن تحيز عنصري دفين يعتبر أن مأساة من “يُشبهوننا” أفظع من مأساة غيرهم، وكما علقت الغارديان ساخرةً: بدا كأن امتلاك الأوكرانيين لحسابات Netflix وInstagram وسيارات حديثة جعل البعض يعتبرهم أرفع إنسانيًا من ضحايا حروب الشرق الأوسط.
في المقابل، عانى الفلسطينيون والعرب تاريخيًا من عملية “شيطنة” في الإعلام الغربي، حيث كثيرًا ما يُختزلون في صورة “إرهابيين محتملين” أو ضحايا مأساويين لكن “مألوف” تكرار مآسيهم، لم يظهر في الإعلام السائد تعبير عن صدمة لكون الضحايا في غزة “يشبهوننا” أو “يشاركوننا القيم”، بل على العكس تمامًا هناك برود نسبي وكأن ما يحدث في الشرق الأوسط أمر اعتيادي وقدَر محتوم، بعض وسائل الإعلام الغربية تميزت بازدواجية حتى في المصطلحات؛ فالمقاتل الفلسطيني نادرًا ما يُمنح وصف “مقاوم” بل “متشدد” أو “إرهابي”، وحتى الأطفال الضحايا يُشار إليهم بإحصائيات جافة مع التشكيك أحيانًا في دقة الأرقام، أما الضحايا الإسرائيليون فيتم إضفاء طابع شخصي على قصصهم وصورهم بشكل واسع في الإعلام الغربي، تمامًا كما حدث مع الأوكرانيين، مما يعكس أن معيار التعاطف يرتفع عندما يكون الضحية “من دائرة الحضارة الغربية” أو حليفًا مقربًا لها.
جانب آخر هو العامل الديني والثقافي؛ فأوكرانيا بلد ذو غالبية مسيحية، أما الفلسطينيون فعرب ومسلمون بغالبيتهم، ورغم أن الخطاب السياسي الرسمي لا يذكر ذلك صراحة، إلا أن بعض المراقبين يرون تأثيرًا خفيًا للإسلاموفوبيا والعنصرية في ضعف التعاطف الغربي مع معاناة الفلسطينيين مقارنة بتعاطفه مع الأوكرانيين، لقد ترسخت في الخيال الغربي لعقود صور سلبية عن العرب والمسلمين بسبب أحداث الإرهاب العالمية، مما جعل رواية “الحرب على الإرهاب” تطغى عند تناول أي عنف يتعلق بفلسطين، بينما يُنظر للأوكرانيين كضحايا “نقيين” لعدوان إمبريالي، وبهذا، يتم تجريد الفلسطيني من إنسانيته الفردية وتصويره كرقم أو تهديد أكثر منه إنسان له اسم وحلم وحياة تمزقت تحت القصف.
لا شك أن الكثير من الغربيين أنفسهم باتوا واعين لهذه الازدواجية العنصرية وينتقدونها بشدة، فقد أصدرت منظمات صحفية تضم صحفيين عربًا ومسلمين في الغرب بيانات تستنكر فيها التعليقات الإعلامية التي وصفت الأوكرانيين بأنهم “متحضرون يشبهوننا” ضمنيًا مقابل ضمّنها إهانة لشعوب أخرى، ويدرك هؤلاء المنتقدون أن تكافؤ التعاطف الإنساني لا ينبغي أن يقوم على لون البشرة أو الخلفية الحضارية، مع ذلك، تبقى الحقيقة المؤلمة أن هوية الضحية تؤثر بعمق في مستوى التعاطف المُمنَح لها سياسياً وإعلامياً في النظام الدولي الحالي.
المصالح الجيوسياسية كيف تُشكّل الاستراتيجية الدعم الغربي؟
إلى جانب كل ما سبق، لا يمكن إغفال العامل البراغماتي البحت: المصالح الجيوسياسية والاستراتيجية للغرب في كل من الصراعين، فالموقف الغربي في أوكرانيا تحرّكه حسابات استراتيجية كبرى؛ إذ يُنظر للحرب هناك على أنها تحدٍ مباشر للنظام الأمني الأوروبي ولمبدأ عدم تغيير الحدود بالقوة، نجحت الولايات المتحدة وأوروبا في تصوير الصمود الأوكراني على أنه خط الدفاع الأول عن الديمقراطيات في مواجهة التوسع الروسي، وبالتالي فإن دعم أوكرانيا يصب في مصلحة الأمن القومي الأوروبي والأمريكي، عمليًا، ضخّت الدول الغربية موارد هائلة لدعم كييف، قدمت الولايات المتحدة وحلفاؤها مساعدات عسكرية ومالية تجاوزت مئات المليارات من الدولارات خلال عامين ، بما في ذلك أحدث الأسلحة والتقنيات الاستخبارية، وأعادت دول الناتو تموضعها وعززت وجودها على الخاصرة الشرقية لأوروبا، وكل ذلك لتحجيم روسيا وردعها عن تهديد دول أخرى في المنطقة، بعبارة أخرى، رأت العواصم الغربية في الأزمة الأوكرانية معركة مصيرية للحفاظ على ميزان القوى العالمي الحالي أمام طموح موسكو لاستعادة نفوذ إمبراطوري، ومن هذا المنطلق، جُنّدت كل الأدوات السياسية والإعلامية والقانونية لدعم أوكرانيا وعزل روسيا دوليًا.
على الجانب الآخر، عندما ننظر إلى فلسطين وإسرائيل، نجد أن إسرائيل حليف استراتيجي وثيق للولايات المتحدة والغرب منذ عقود، تربطها بواشنطن علاقة عضوية مدعومة بقوة اللوبي المؤيد لإسرائيل في السياسة الأمريكية، فضلاً عن اعتبارات تاريخية وأيديولوجية (مثل الشعور الغربي بالمسؤولية تجاه اليهود بعد الهولوكوست)، تقدم الولايات المتحدة لإسرائيل نحو 3.8 مليارات دولار سنويًا كمساعدات عسكرية ثابتة ، إلى جانب الدعم السياسي والدبلوماسي في المحافل الدولية، تعتبر إسرائيل بالنسبة لواشنطن ركيزة أساسية لنفوذها في الشرق الأوسط المضطرب، وحليفًا بمواجهة خصوم مشتركين كإيران والجماعات المتطرفة، لذلك، عندما اندلعت حرب غزة 2023 إثر هجوم حماس، اصطف القادة الغربيون تلقائيًا إلى جانب إسرائيل لضمان تفوقها وانتصارها على حركة تعتبرها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي “إرهابية”، يبقى أمن إسرائيل وتحالفها الاستراتيجي مقدّمًا على إحراجها دوليًا أو الضغط عليها بقوة لوقف النار، وقد برز ذلك عندما استمر الغرب في تزويد إسرائيل بالأسلحة والذخائر خلال حربها على غزة – بما فيها قنابل دقيقة التوجيه – في الوقت الذي كان يدعو فيه نظريًا إلى حماية المدنيين.
كذلك، تعي الدول الغربية أن الشارع الداخلي لديها عمومًا أكثر تعاطفًا مع الإسرائيلي (لأسباب ثقافية ودينية) منه مع الفلسطيني، وبالتالي فإن تبنّي موقف مناصر بقوة للفلسطينيين قد يُكلّف زعماءها سياسيًا، بالمقابل، دعم أوكرانيا يحظى بشعبية لدى الرأي العام الغربي لأنه يُنظر إليه كوقوف في وجه الطموح الروسي الذي يخشاه الأوروبيون تاريخيًا، أضف إلى ذلك أن روسيا خصم جيوسياسي مباشر للغرب، بينما الفلسطينيون ليسوا كذلك؛ بل إن الضغط على إسرائيل قد يُضعف صورة مصداقية الغرب في دعم حلفائه.
يجادل بعض المحللين أن الازدواجية في المعايير هي في جوهرها انعكاس للمصالح: فحيثما تت align (تتماشى) المبادئ مع المصالح – كما في أوكرانيا – يبرز خطاب أخلاقي عالي النبرة، وحيثما تتعارض – كما في فلسطين – تطغى الحسابات الواقعية، وقد اعترف مسؤولون في الاتحاد الأوروبي ضمنيًا بهذا التفاوت، حيث أقرّ ممثل السياسة الخارجية الأوروبية جوزيب بوريل أن رد الفعل الغربي على معاناة غزة أضر بصورتهم لدى دول الجنوب، بالمحصلة، الدعم الغربي ليس مجرد مسألة قيم إنسانية بل أيضًا رهينة لمقتضيات السياسة الواقعية، مواجهة روسيا في أوكرانيا ضرورة استراتيجية، أما الضغط على إسرائيل لوقف الحرب فاعتُبر خطرًا على تحالف استراتيجي قديم، وهكذا تشكّلت المعايير المزدوجة عند تقاطع المبادئ والمصالح.
ردود الفعل الشعبية والإعلام البديل
أمام هذا المشهد، برزت ردود فعل شعبية عالمية وانتفاض في الإعلام البديل ووسائل التواصل الاجتماعي ترفض ازدواجية المعايير وتدعو للعدالة المتساوية، فعلى امتداد العواصم الغربية نفسها، خرجت حشود هائلة تطالب بوقف الحرب على غزة وإنقاذ المدنيين، شهدت مدن كبريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة أكبر المظاهرات المؤيدة لفلسطين منذ عقود، في لندن وحدها، خرج مئات الألوف في مظاهرات أسبوعية خلال خريف 2023 مطالبين بـوقف إطلاق النار فورًا وحاملين الأعلام الفلسطينية ولافتات تندد بالصمت الدولي، وقدّرت الشرطة البريطانية عدد المشاركين في إحدى المسيرات بأكثر من 300 ألف متظاهر (في 11 نوفمبر 2023) – ما جعلها من أضخم المظاهرات في تاريخ بريطانيا الحديث، مشاهد مشابهة تكررت في عواصم أوروبية أخرى كباريس ومدريد وبرلين (رغم محاولات المنع أحيانًا)، وكذلك عبر المحيط في نيويورك وواشنطن حيث تجمّع عشرات الآلاف أمام البيت الأبيض رافعين شعار “أوقفوا قتل الأطفال في غزة”، وفي العالمين العربي والإسلامي، خرجت مظاهرات مليونية غاضبة في مصر وإسطنبول وجاكرتا والرباط وغيرها دعمًا لغزة وتنديدًا بازدواجية المعايير الغربية .
لم يقتصر الأمر على الشارع؛ بل شهدت وسائل التواصل الاجتماعي زخمًا غير مسبوق في فضح التناقضات، انتشرت مقاطع فيديو وتقارير تقارن تصريحات السياسيين والإعلاميين الغربيين حول أوكرانيا وفلسطين جنبًا إلى جنب، مظهرةً المفارقات بشكل واضح، كما لعب الصحفيون المواطنين والنشطاء دورًا في تحدي الرواية الرسمية؛ فمثلا، قام ناشطون ببث مباشر من غزة تحت القصف لتوثيق ما اعتبروه جرائم حرب، وشارك آخرون معلومات وإحصائيات مضادة لتلك السائدة في الإعلام الغربي، هذه المنصات البديلة كسرت احتكار السرد إلى حد كبير، وجعلت صور الضحايا الفلسطينيين وأسماؤهم معروفة عالميًا رغم التجاهل الرسمي، وبفضل هذا الضغط الشعبي والإعلام البديل، اضطر القادة الغربيون جزئيًا إلى تعديل نبرة خطابهم مع طول أمد حرب غزة؛ فصدرت عن شخصيات في أوروبا الغربية – مثل نواب في البرلمان الأوروبي ووزراء سابقين – انتقادات علنية لإسرائيل ومطالبات بوقف فوري للقتال حمايةً للمدنيين، حتى في الولايات المتحدة، أظهرت استطلاعات الرأي خلال نوفمبر 2023 أن أغلبية الأمريكيين (حوالي 68%) تؤيد وقف إطلاق النار وتفاوض الأطراف ، وأن الدعم الشعبي لإسرائيل تراجع بشكل ملموس مقارنة ببداية الحرب، هذا التحول الشعبي يشير إلى تنامي الوعي بالازدواجية ورفضها أخلاقيًا.
كما تشكّلت حركات تضامن عابرة للحدود تربط ما بين القضيتين، فبعض الناشطين الذين دعموا أوكرانيا علنًا في وجه روسيا، رفعوا الصوت ذاته دعمًا لغزة في وجه آلة الحرب الإسرائيلية، تحت شعار “المدنيون يستحقون الحماية أينما كانوا”، وفي المقابل، استغلت روسيا نفسها وحلفاؤها هذه الازدواجية الغربية في دعايتهم؛ فالإعلام الروسي والصيني أشار مرارًا إلى تباين المواقف الغربية لتقويض مصداقية خطاب الغرب عن حقوق الإنسان، وأيدت شريحة واسعة من الرأي العام في دول الجنوب العالمي هذا الطرح، معتبرين أن الغرب لا يطبق القيم إلا انتقائيًا.
إن رد الفعل الشعبي والإعلامي البديل نجح إلى حد ما في إحراج الحكومات الغربية ودفعها لتبرير مواقفها، وأصبح هاشتاج #DoubleStandards (ازدواجية المعايير) متداولًا بكثرة على منصات التواصل عند مناقشة الأزمتين، ومع استمرار هذا الضغط من المجتمع المدني العالمي، تزداد صعوبة أن تستمر الدول الكبرى في تبرير الكيل بمكيالين دون كلفة سياسية أو معنوية.
أثر الازدواجية على مصداقية النظام الدولي ومستقبله
لقد كشفت الأحداث الممتدة من أوكرانيا إلى غزة أن النظام الدولي القائم على القوانين والمؤسسات يعاني أزمة مصداقية عندما يُنظر إليه كأداة تحابي بعض الأطراف على حساب أخرى، فكيف يمكن إقناع دول صغيرة باحترام مبدأ سيادة الدول وعدم استخدام القوة، في حين ترى أن هذا المبدأ يطبق بحزم على روسيا في أوكرانيا ويتراخى أمام إسرائيل في فلسطين؟ إن رسالة ازدواجية المعايير هذه خطيرة للغاية، لأنها توحي بأن العدالة الدولية انتقائية، وبأن حقوق الإنسان “لها حدود تتوقف عند حدود وجنسيات وأعراق معينة، والنتيجة هي انهيار متزايد للثقة بفكرة النظام العالمي “القائم على قواعد”، لقد بدا للكثيرين في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية أن النظام الدولي الحالي ليس سوى امتداد لهيمنة غربية تحدد متى تكون القوانين ملزمة ومتى يتم تجاهلها .
هذا الانهيار في الثقة له تداعيات خطيرة، فمن ناحية، قد يدفع دولًا أخرى لانتهاج سياسات أكثر استقلالية عن الغرب، وربما التقارب مع قوى كبرى منافسة كروسيا والصين التي تتبنى خطابًا مناهضًا لـ”معايير الغرب المزدوجة”، ومن ناحية أخرى، يُضعف هيبة المؤسسات الدولية كالأمم المتحدة والمحكمة الجنائية، مما يشجع حالة فوضى دولية يشعر فيها كل طرف أنه بمقدوره الإفلات بفعلته طالما يمتلك القوة أو الدعم اللازم، وقد حذر غوتيريش من أننا نعيش وضعًا عالميًا “فوضويًا” حيث تعتقد الدول والجماعات المسلحة أنها تستطيع فعل ما تشاء بلا محاسبة ، في غياب معيار موحد يطبق على الجميع.
على المدى البعيد، ستواجه المنظومة الدولية مفترق طرق: فإما أن تدفع هذه التجارب الأليمة نحو إصلاحات جوهرية تعيد المساواة إلى قلب النظام الدولي – كإصلاح مجلس الأمن لضمان تمثيل أوسع ومنع احتكار قرارات السلم والحرب من قبل خمس دول فقط، وتعزيز استقلالية المحاكم الدولية عن الضغوط السياسية – أو سيستمر تآكل مصداقية النظام القائم حتى يفقد فعاليته تمامًا، لقد أظهر التضامن الشعبي العالمي مع غزة وأوكرانيا معًا أن شعوب العالم تتوق لمعايير عدالة واحدة لا تميز بين ضحية وأخرى، وربما يشكل هذا الضغط الأخلاقي أساسًا لإرساء معايير جديدة أكثر اتساقًا، لكن ذلك يتطلب اعترافًا صريحًا من القوى الكبرى بازدواجيتها وتصحيح المسار، وإلا فإن الحديث الغربي عن نظام دولي قائم على القانون سيبقى في نظر كثيرين مجرد خطاب أجوف يطبق عند المصلحة ويتلاشى عند تعارضها.
من مأساة أوكرانيا إلى مأساة غزة، يبدو أن النظام الدولي قد أخفق في اختبار النزاهة والتطبيق الموحد للمبادئ، لقد أثارت ازدواجية المعايير غضبًا عالميًا وشرخًا متناميًا بين شعوب الشمال العالمي والجنوب العالمي، وإزاء هذا الواقع، تبرز حاجة ملحّة لإعادة تأكيد القيم الإنسانية الكونية دون تمييز – فالقانون الدولي إما أن يحمي الجميع أو يفقد معناه، إن دماء الأبرياء واحدة، سواء سالت في شوارع كييف أو تحت أنقاض غزة، ومصداقية النظام الدولي ستظل رهينة قدرته على إدراك هذه الحقيقة البسيطة وترجمتها في الأفعال والمواقف، بلا ازدواجية ولا انتقائية، العالم بأسره يراقب، فإما نظام أكثر عدلًا وصدقًا، أو فوضى ومعايير بعدة مكاييل تهدد أسس السلم الدولي، المصادر تشير بوضوح إلى أن الكرة الآن في ملعب قادة المجتمع الدولي لتصحيح المسار قبل فوات الأوان.
ملحوظة: مضمون هذا الخبر تم كتابته بواسطة الطريق ولا يعبر عن وجهة نظر مصر اليوم وانما تم نقله بمحتواه كما هو من الطريق ونحن غير مسئولين عن محتوى الخبر والعهدة علي المصدر السابق ذكرة.
انتبه: مضمون هذا الخبر تم كتابته بواسطة مصر اليوم ولا يعبر عن وجهة نظر مصر اليوم وانما تم نقله بمحتواه كما هو من مصر اليوم ونحن غير مسئولين عن محتوى الخبر والعهدة علي المصدر السابق ذكرة.